فصل: مسألة الشيء من الفضة يجعل في الآنية ونحوها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة للجن الثواب والعقاب:

في أن للجن الثواب والعقاب قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول: للجن الثواب والعقاب، وتلا قول الله عز وجل: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14] {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15]. «وذكر ابن مسعود في ليلة الجن حين خط له: أتاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: سمعت الجن تقول له: من يشهد أنك رسول الله؟ وكان قريبا من ذلك شجرة، فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرأيتم إن شهدت هذه الشجرة أتؤمنون؟ قالوا: نعم فدعاها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقبلت. قال ابن مسعود: فلقد رأيتها تجر أغصانها، فقال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تشهدين أني رسول الله؟ قالت: نعم أشهد أنك رسول الله. قال أصبغ: وأنا أشهد أنه رسول الله. قال وأعطاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عظما وروثة، قال حسبته قال زادا. قال وليس عظم يأخذونه إلا كان كهيئته يوم كان ولا روثة إلا كانت ثمرة كهيئتها التي عليها بحالها.» قال أصبغ: نهي عن الاستنجاء بهما فيما بلغني من أجل ذلك فيما نرى.
قال محمد بن رشد: استدلال ابن القاسم على ما ذكره من أن للجن الثواب والعقاب بما تلاه من قول الله عز وجل: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} [الجن: 14] إلى قوله: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] استدلال صحيح بين لا إشكال فيه، بل هو نص جلي في ذلك. والقاسطون في هذه الآية هم الجائرون عن الهدى والمشركون، بدليل قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} [الجن: 14]، ففي الجن مسلمون، ويهود، ونصارى، ومجوس، وعبدة أوثان، قاله بعض أهل التفسير في تفسير قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} [الجن: 11] قال يريد المؤمنين، {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11] قال يريد غير المؤمنين. وقَوْله تَعَالَى: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11] أي مختلفين في الكفر يهود ونصارى ومجوس وعبدة أوثان.
وقول أصبغ: نهي عن الاستنجاء بهما فيما بلغني من أجل ذلك فيما نرى، هو مذكور في بعض الآثار أنهم لما سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زادا فأعطاهم العظم والروث قالوا له: إن أمتكم تنجسهما علينا بالاستنجاء، قال: سأنهى أمتي عن الاستنجاء بهما، فنهى عن ذلك. وقد روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الاستنجاء بالعظم والجلد والبعرة والروثة والحممة، فكره من ذلك مالك في رسم سن من سماع ابن القاسم في كتاب الوضوء العظم والروث، وخفف العظم في رواية أشهب عنه من الكتاب المذكور، وخفف الروث في المجموعة. قال ابن حبيب: واتباع النهي في تجنب ذلك كله أحب إلي.
وقد اختلف فيمن استنجى بشيء مما نهي عن الاستنجاء به، فقيل: إنه لا إعادة عليه، وهو قول ابن حبيب؛ وقيل: إنه يعيد في الوقت، والوقت في ذلك وقت الصلاة المفروضة، وروي ذلك عن أصبغ، وكذلك عنده من استنجى بعود أو خزف أو خرق.
وجه القول الأول أن الاستنجاء إنما هو لعلة إزالة الأذى عن المخرجين، فإذا زال الأذى بما عدا الأحجار ارتفع الحكم كما لو زال بالأحجار. ووجه القول الثاني أن إزالة الأذى عن المخرجين مخصوص بالأحجار، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أوَلا يجد أحدكم ثلاثة أحجار»، فلا يجزئ فيه ما عداها إلا الماء، لقوله: الماء أطيب وأطهر. ومما أجمعوا عليه أنه لا يجوز الاستنجاء بكل ما له حرمة من الأطعمة، وكل ما فيه رطوبة من النجاسة؛ فإن استنجى بشيء مما له حرمة أعاد في الوقت عند أصبغ، وإن استنجى بما فيه رطوبة من النجاسات أعاد في الوقت قولا واحدا، وبالله التوفيق.

.مسألة مبايعة علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما:

في مبايعة علي بن أبي طالب لأبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول: بايع علي بن أبي طالب لأبي بكر وهو كاره على ما أحب أو كره ومن معه من أهل البيت.
قال محمد بن رشد: إنما توقف علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في أول وهلة عن مبايعة أبي بكر لما كان يعتقد من أنه أحق بالخلافة منه لمكانه من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم بايعه باختياره غير مكره على ذلك لما رأى من أنه هو الواجب عليه، إذ قد انعقدت له الإمامة بمبايعة من تنعقد بمبايعته، كما أنه لو بويع هو أولا انعقدت له الإمامة بمبايعة من بايعه ممن تنعقد به الإمامة، كما أنه لو بويع هو أولا وانعقدت له الإمامة لبايعه أبو بكر الصديق وغيره منشرح الصدر بمبايعته إياه؛ لأن كل واحد منهما ومن سائر العشرة أصحاب حراء الذين شهد لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة، ممن قد اجتمعت فيه شروط الإمامة، فإذا بويع من اجتمعت فيه شروط الإمامة انعقدت له الإمامة وإن كان غيره أحق بها، وبالله التوفيق.

.مسألة كثرة عدد أهل الهند:

في كثرة عدد أهل الهند قال أصبغ: حدثنا ابن القاسم عن الليث بن سعيد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: غزاة الهند مثل سائر العالم، قال ابن القاسم غير أنهم قط أو مثل الخلق أو أكثر.
قال محمد بن رشد: هذا مما لا يعرف إلا بالتوقيف من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ لا مدخل للرأي فيه، وبالله التوفيق.

.مسألة ما جاء من أن آدم عليه السلام نبيء:

فيما جاء من أن آدم عَلَيْهِ السَّلَامُ نبيء قال أصبغ وسمعت ابن القاسم يقول: «بلغني أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن آدم عَلَيْهِ السَّلَامُ أنبيء هو؟ فقال نعم نبيء مكلم». قال ابن القاسم: فذكرت ذلك لأبي شريح المعافري، قال ذلك في كتاب الله. قال أصبغ يعني مكلما حيث يقول الله تبارك وتعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف: 22]، {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف: 19].
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين لأن القرآن يعضد السنة فيه، وبالله التوفيق.

.مسألة ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على من أثنى عليه بثبوت الإيمان في قلبه:

في ثناء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من أثنى عليه بثبوت الإيمان في قلبه قال ابن القاسم: سمعت من يذكر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن من أصحابي مَنِ الإيمانُ أثبت في قلبه من الجبال الرواسي».
قال محمد بن رشد: في هذا دليل واضح، بل هو نص جلي في أن الإيمان وإن كان هو التصديق الحاصل في القلب فإنه يتفاضل في الرسوخ والقوة والثبوت والبعد من طروء الشكوك عليه، فليس من آمن بالله ولم يعرفه بالاستدلال عليه كمن عرفه به، ولا من عرفه بوجه واحد من وجوه الأدلة كمن عرفه من وجوه كثيرة، ولا من عرفه بالأدلة دون معاينة الآيات كمن شاهدها وعاينها بحضرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوة اليقين في القلب وبعده عن أن يفتن فيه أو يدفعه الشيطان، وقد أعلم الله عز وجل بزيادة الإيمان فقال: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة: 124] وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] ومعنى ذلك زيادة اليقين في القلب والبعد من أن تطرأ عليه الشكوك فيه، وهذا أولى ما قيل في معنى زيادة الإيمان الذي نص الله تبارك وتعالى عليه. وقد روي عن مالك أنه كان يطلق القول بزيادة الإيمان ويكف عن إطلاق نقصانه، إذ لم ينص الله تعالى إلا على زيادته، فروي عنه أنه قال عند موته لابن نافع وقد سأله عن ذلك: قد أبرمتموني، إني تدبرت هذا الأمر، فما من شيء يزيد إلا وهو ينقص، الإيمان يزيد وينقص. وهذا بين على القول بأن زيادة الإيمان إنما هو زيادة اليقين، إذ قد يضعف اليقين بالإيمان من غير أن يداخله شك فيه، فيكون ذلك هو نقصانه. وقد قيل إن معنى زيادة الإيمان زيادة العدد بتكرره؛ لأن إيمان شهر أقل عددا من إيمان شهرين، فعلى هذا القول لا يتصور في الإيمان نقصان إلا على تأويل وهو نقصانه على المرتبة التي كان عليها من الكثرة. وقد زدنا هذا المعنى بيانا في كتاب المقدمات، وبالله التوفيق.

.مسألة تأديب الرجل عبيد امرأته:

في تأديب الرجل عبيد امرأته قال أصبغ: سئل ابن القاسم عن الرجل يضرب عبيد امرأته ويأمرهم وينهاهم على وجه الأدب وهي لذلك كارهة، قال: لا أرى ذلك إلا بإذن امرأته.
قال محمد بن رشد: معناه في تأديبه إياهم على التعوق عن الخدمة وترك الاستقامة على الشغل، وما أشبه ذلك مما يأمرهم به فيعصونه فيه. وأما ما كان من حقوق الله تعالى كالوضوء والصلاة فله أن يؤدبهم على تضييع ذلك، ويأمرهم في ذلك وينهاهم فيه دون إذن امرأته، لقول الله عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] وبالله التوفيق.

.مسألة الركوب على الدابة العري:

في الركوب على الدابة العري قال وسألت ابن القاسم عن ركوب الرجل خلف الرجل على الدابة العري، قال: سمعت أبا شريح ينكر ذلك، وما يعجبني لأحد أن يفعله إلا من ضرورة.
قال محمد بن رشد: هذا على سبيل الاستحباب؛ لأن الدواب محمولة على الطهارة، وقد قال مالك في المدونة: لا بأس بعرق البرذون والبغل والحمار. وقد جاء بأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركب على فرس عري بوب البخاري على ذلك ركوب الفرس العري، وأدخل الحديث بذلك قال: حدثنا عمرو بن عون، حدثنا حماد عن ثابت عن أنس قال:
«استقبلهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على فرس عري ما عليه سرج في عنقه سيف» وبالله التوفيق.

.مسألة الذي ينقطع قبال إحدى نعليه:

في الذي ينقطع قبال إحدى نعليه وسئل عن الرجل ينقطع قبال نعله فيقف في نعل واحدة ولا ينزعها حتى تصلح الأخرى، قال إنما جاء في الحديث: «لا يمش أحدكم في النعل الواحدة» فإذا كان واقفا فلا بأس بذلك في رأيي إن شاء الله. وقاله أصبغ إذا قرب ولم يطل جدا، فإن طال كان بمنزلة المشي عنده ومثل ما كره له المشي به.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم إنه لا بأس أن يقف في النعل الواحدة ما دام يصلح الأخرى هو الذي يدل عليه الحديث كما قال، فلا بأس بذلك على مذهبه وإن طال، خلاف قول أصبغ في جعله الوقوف إذا طال بمنزلة المشي، وهو بعيد؛ لأنه إنما يكره المشي. روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رواية جابر بن عبد الله أنه قال: «إذا انقطع شسع نعل أحدكم فلا يمش في نعل واحدة حتى يصلح شسعه» وقد روي «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربما انقطع شسع نعله فمشى في نعل واحدة» إلا أنه حديث ضعيف لا يصححه أهل العلم بالحديث. وروي أيضا عن علي أنه رئي يمشي في نعل واحدة وهو يصلح شسعه. ورواه مسلمة أيضا عن عبد الله بن عمر، والذي أراه في هذا أن تستعمل الآثار كلها ولا يطرح شيء منها فنقول على استعمالها: إنه لا يمشي الرجل في نعل واحدة إذا انقطع شسع إحداهما، وإذا انقطع شسع إحدى نعليه وهو يمشي فلا بأس أن يمشي في النعل الواحدة ما دام يصلح الأخرى؛ لأن ذلك يسير، بخلاف ابتداء المشي في النعل الواحدة. والنهي عن المشي في النعل الواحدة نهي أدب وإرشاد لا نهي تحريم، خلاف ما ذهب إليه أهل الظاهر من أنه من مشى في نعل واحدة فهو آثم عاص. وعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تجيز المشي في النعل الواحدة وتنكر حديث أبي هريرة في النهي عن ذلك، روي عنها أنها كانت تمشي في الخف الواحد وتقول: لأحنثن أبا هريرة، وبالله التوفيق.

.مسألة الشيء من الفضة يجعل في الآنية ونحوها:

في الشيء من الفضة يجعل في الآنية ونحوها قال أصبغ سمعت ابن القاسم وسئل عن الرجل يجعل في بعض آنيته الشيء من الفضة أو يجعل في ميزانه الحلقة من الفضة أو يجعل ذلك في لجامه أو ركابه، قال: أما الآنية التي يؤكل فيها ويشرب فإن ذلك مكروه، وقد جاء فيه النهي عمن مضى، وكان مالك يكرهه. وأما الحلية في السيف والمصحف من الفضة فإني أرجو أن يكون ذلك خفيفا لا بأس به، ولا خير في اللجام ولا في الركابين ولا السكين يجعل في نصابه، وأكره ذلك في المرآة والمداهن. قال أصبغ لا للرجال ولا للنساء.
قال محمد بن رشد: معنى هذه الرواية أنه فرق بين أن يجعل الفضة اليسيرة في الآنية التي يؤكل فيها أو يشرب فيها، وبين أن يجعل في الركابين واللجام والسكين؛ لأنه قال في جعلها في الآنية التي يؤكل فيها ويشرب إن ذلك مكروه، وقال في جعلها في اللجام والركابين والسكين إن ذلك لا خير فيه. والمعنى في ذلك سواء؛ لأن المكروه لا خير فيه، بل الخير في تركه، وما لا خير فيه فهو مكروه؛ لأن ترك ما لا خير فيه خير من فعله، والكراهية في ذلك كله سواء؛ لأنه إنما جاء النهي عن الأكل والشرب في آنية الفضة والذهب من جهة التشبه بالأعاجم، وكذلك اللجام والسرج المحليان بالفضة والذهب إنما لم يجز الركوب بهما من أجل ذلك. وكذلك الميزان من الفضة والسكين يكون نصابه كله فضة، فإذا لم يكن في شيء من ذلك كله من الفضة إلا اليسير، كالتضبيب في شفة الإناء أو الحلقة تكون فيه أو في الميزان، أو الشيء اليسير من الفضة في طرف اللجام أو طرف نصاب السكين وما أشبه ذلك، جرى ذلك على الاختلاف في العلم من الحرير يكون في الثوب، كرهه مالك ورأى تركه أحسن، وأجازه غيره من غير كراهة فرآه من حد الجائز. وأما السيف والمصحف فلا اختلاف في جواز تحليتهما بالفضة؛ لأنهما للرجل بمنزله الحلي للنساء، يجوز اتخاذه للقنية والاستعمال ولا تكون فيه زكاة، بخلاف سائر السلاح من الدرق والحراب والقسي لا يستخف في شيء من ذلك من الفضة إلا ما يستخف في الإناء الذي يؤكل ويشرب فيه.
وكذلك المرآة والمداهن. وقول أصبغ في ذلك إن الرجال فيه بمنزلة النساء صحيح؛ لأن ذلك ليس من ناحية لباسهن كالذي يتخذنه لشعورهن ولإقفال ثيابهن على ما قاله ابن شعبان، وبالله التوفيق له الحمد.

.مسألة شراء المغنيات وبيعهن:

في شراء المغنيات وبيعهن قال أصبغ: وسمعت ابن القاسم يقول في الذي يشتري المغنية ولا يريدها لعملها ذلك إلا للخدمة وما أشبه ذلك، إنه إذا كان لم يزد في ثمنها لموضع غنائها فلا بأس به. قال أصبغ: وكذلك البائع إذا باع كذلك فباع على رأسها بغير غناء ولم يزد في قيمتها لغنائها فالثمن له حلال، وكذلك ينبغي أن يبيع إذا باع، وإلا حرم عليه البيع والثمن كله. وثمن المغنيات حرام محرم، قال أصبغ قد حدثني عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن نصر عن علي بن زيد، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة الباهلي، عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا يحل شراء المغنيات ولا بيعهن ولا تعليمهن ولا التجارة فيهن، وثمنهن حرام، ثم تلا هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] الآية». وأخبرني بذلك ابن وهب عن الحارث بن نبهان عن محمد بن ثواب، عن أبي إسحاق السبيعي، عن علي بن أبي طالب، عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، فكسبهن حرام.
قال محمد بن رشد: الذي عليه معظم أهل التفسير في قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] أن المراد به الغناء واستماعه. من ذلك ما روي عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] فقال: الغناء، والذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات. وهو قول مجاهد وعطاء. وقال القاسم بن محمد: الغناء من الباطل، وهو في النار. وقال مكحول: من كانت له جارية مغنية فمات لم يصل عليه لقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] إلى قوله: {عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6]، وفي بعض الروايات في حديث أبي أمامة الباهلي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أنه قال في المغنيات: أكل أثمانهن حرام ولا يحل تعليمهن». وقد يدل على تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] الآية. وقد اختلف في معنى قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] فقالت طائفة: هو الشراء على الحقيقة بالأثمان، بدليل ما روي من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن» والمعنى على هذا في قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]، أي ومن الناس من يشتري ذات لهو الحديث، فحذف ذات أو ذا وأقام اللهو مقامه، مثل قوله عز وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي أهل القرية. وقال قتادة وطائفة من العلماء: معنى الآية ومن الناس من يختار لهو الحديث ويستحبه، ولعله أن لا ينفق فيه مالا ولكن اشتراؤه استحسانه. قال قتادة: وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل عن حديث الحق، وما يضر على ما ينفع. وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث العبدري وكان يشتري من كتب أحاديث العجم فارس والروم وصنيعتهم ويحدث بها قريشا فيستحلونها ويعجبهم ما يسمعون منها فيلهون ويلهيهم بها. وقال جماعة من أهل التفسير، منهم الحسن والضحاك وابن زيد: إن الآية نزلت في أهل الكفر، ألا ترى إلى قوله عز وجل:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان: 7] فليس هكذا أهل الإسلام. قالوا: فمعنى لهو الحديث الشرك، كقوله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] فمن ذهب إلى هذا رأى الغناء مكروها منهيا عنه غير محرم في القرآن. وقال أبو جعفر الطبري: الذي أراه وأقول به في هذا أن الله عز وجل عنى به كل ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله مما نهى الله عز وجل عن استماعه أو رسوله؛ لأن الله عز وجل عم بقوله لهو الحديث ولم يخصص بعضا دون بعض، فذلك على عمومه في الغناء والشرك حتى يأتي ما يدل على خصوصه. وهذا الذي ذهب إليه أبو جعفر الطبري أولى ما قيل في تأويل الآية؛ لأنها وإن كانت نزلت فيما كان يفعله النضر ابن الحارث، فهي عامة تحمل على عمومها، ولا تقصر على ما كان سبب نزولها مما كان يفعله. وقد دل على حملها على عمومها ما روي من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال-: «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن» وقد نزل على تصديق ذلك في كتاب الله، يريد ما فهمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عموم قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]. وقوله في الحديث: «ولا يحل شراء المغنيات ولا بيعهن» معناه إذا اشتراهن لغنائهن أو باعهن بزيادة في قيمتهن من أجل غنائهن، وأما إذا اشتراها للخدمة وما أشبهها ولم يزد في ثمنها من أجل غنائها فذلك جائز للبائع والمبتاع. وإن اشتراها للخدمة لا لغنائها بأكثر من قيمتها لأجل غنائها فذلك حرام على البائع ومكروه للمبتاع. وظاهر قوله في الحديث أن الثمن كله محرم على البائع، والذي يحرم عليه منه إنما هو ما ازداد على قيمتها من أجل غنائها، كمن باع خمرا وثوبا صفقة واحدة بدنانير، فلا يحرم عليه من الدنانير التي باعها بها إلا ما ينوب الخمر منها. فالمعنى في ذلك أن الحرام من ثمن المغنية لما كان مشاعا في جملة لم يحل له أن يأكل منه قليلا ولا كثيرا حتى يخرج الحرام منه فيخلص له الحلال؛ لأنه إذا أكل شيئا فهو عليه حرام من أجل ما خالطه من الحرام، وإن كان باقي الثمن عنده وفيه وفاء بجميع الحرام، وذلك في التمثيل كرجل سرق دينارا من مال بينه وبين شريكه فأكله فهو عليه حرام من أجل ما خالطه من مال شريكه حتى يتحلله منه أو يرده إليه. وهذا هو معنى قول أصبغ في الرواية: وإلا حرم عليه الثمن كله، وثمن المغنيات حرام محرم، وبالله التوفيق.

.مسألة قصة الشعر للمرأة:

في قصة الشعر للمرأة قال أصبغ سمعت ابن القاسم يقول: أكره قصة الشعر للمرأة كراهية شديدة. قال وكان فرق الرأس أحب إلى مالك فيما أظن.
قال محمد بن رشد: قصة الشعر للمرأة هو أن تترك على جبهتها ما أنسدل من الشعر إلى وجهها فتقصه على حاجبيها، وفرق الشعر هو أن لا تقصه فتقسمه بالمشط فتلقي نصفه إلى أحد الجانبين، والنصف الآخر إلى الجانب الآخر فتنكشف الجبهة من الشعر. وإنما كره ذلك للمرأة لما جاء من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سدل ناصيته ما شاء الله ثم فرق بعد ذلك. وروي عن ابن عباس أنه قال: «كان أهل الكتاب يسدلون شعرهم، وكان المشركون يفرقون، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، فسدل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناصيته ثم فرق بعد». ففي حديث ابن عباس هذا دليل على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يترك في آخر أمره ما كان عليه من موافقة أهل الكتاب في السدل إلا لشيء أمر به، فهذا وجه ما ذهب إليه مالك في كراهية القصة للمرأة. ويدل على ما ذهب إليه من ذلك حديث «معاوية بن أبي سفيان إذ خطب الناس بالمدينة عام حج، فتناول قصة من شعر كانت بيد حرسي فقال يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن مثل هذه ويقول إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم؛» لأن المعنى فيها، والله أعلم، أنها كانت قصة معمولة من شعر تضعها المرأة التي قد سقط شعرها على رأسها فينسدل على جبهتها مقصوصا ترائي به أنه شعرها، فنهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك في حديث معاوية؛ لأنه من ناحية النهي أن تصل المرأة شعرها بشعر غيرها، وقد قال ابن عبد البر: إن معنى النهي في حديث معاوية هو أن تصل المرأة شعرها بشعر غيرها. وقد جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه «لعن الواصلة والمستوصلة». والذي قلته أبين من ظاهر الحديث، وبالله التوفيق.

.مسألة مخارجة الأمة:

في مخارجة الأمة قال ابن القاسم: ولا أرى بأسا أن يأمر الرجل جاريته أن تأتيه بالخراج وإن لم تكن لها صنعة، مثل أن تستقي الماء أو تحتطب وما أشبه ذلك، وقاله أصبغ، هذه صناعات، وإنما المكروه أن يهملها تأتي بالخراج من غير وجه معروف من وجوه الكسب، لا بعمل ولا بصنعة ولا بيع ولا ابتياع تؤديه وتكتسب به، فلعل هذه تكتسب بالزنا أو مهر البغي أو تأتي به، وكذلك قال عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا تكلفوا الأمة غير ذات الصنعة الكسب فإنكم متى كلفتموها كسبت بفرجها خوفا من ذلك إذا لم يكن لها عمل تكسب منه. ونهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مهر البغي فهو يدخل في هذا ولا يحل. فإن كانت ذات صنعة بعينها إذا أهملت، وكيف أن تترك في الكسب بفرجها وفسادها أن تخارج ولا توكل ولا تعان عليه ولا تهمل ولا يدقق في ذلك بتأويل الصنعة، وهو يكون داعية ويكون عونا، مثل الجواري اللاتي تهمل تعمل الحجامة والمشط واللعب المجون ونحو ذلك، والفساد منهن فيه ظاهر ومتوقع، لا يؤمن ولا تخفى تهمته وظنونه، فلا أرى اتخاذهن لمثل هذا يحل، ولا إهمالهن ولا كسبهن فيه لأنه مشترك والله أعلم، وأراه عظيما من الفعل والعمل. قال أصبغ قال ابن القاسم والغلام الصغير عندي ذو الصنعة مثل الجارية، يعني في الاستقاء والاحتطاب وشبههما، فلا بأس به ما لم يكلفهما في ذلك ما لا يقويان عليه. قال وحدثني ابن وهب عن إبراهيم بن نشيط أن حذيفة قام في الناس فقال: يا أيها الناس، انظروا في ضرائب أرقائكم فما طاب منها فكلوه، وإلا فاتركوه.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا كله بين لا إشكال فيه ولا موضع للقول وبالله التوفيق لا شريك له.

.مسألة دخول الحمام وأحكامه:

في دخول الحمام قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن دخول الحمام فقال: إن وجدته خاليا أو كنت تدخل مع النفر يستترون ويتحفظون لم أر بدخوله بأسا، وإن كان يدخله مع من لا يبالي لم أر أن تدخله وإن كنت متحفظا في نفسك. قال أصبغ: أدركت ابن وهب يدخله مع العامة، ثم ترك ذلك، ثم كان يدخله مخليا.
قال محمد بن رشد: أما دخول الرجل الحمام إذا كان خاليا فلا كراهة فيه، وأما دخوله مستترا مع مستترين فقال في الرواية لا بأس بذلك أي لا حرج عليه في ذلك، وتركه أحسن. فقد قال مالك في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب وقد سئل عن الغسل من الماء السخن من الحمام فقال: والله ما دخول الحمام بصواب، فكيف يغسل بذلك الماء. ووجه الكراهة في ذلك وإن دخله مستترا مع مستترين مخافة أن يطلع على عورة أحد بغير ظن، إذ لا يكاد يسلم من ذلك من دخله مع عامة الناس. وأما دخوله غير مستتر أو مع من لا يستتر فلا يحل ذلك ولا يجوز؛ لأن ستر العورة فرض، ومن فعل ذلك كان جرحة فيه. والنساء في هذا بمنزلة الرجال، هذا هو الذي يوجبه النظر؛ لأن المرأة يجوز لها أن تنظر من المرأة ما يجوز للرجل أن ينظره من الرجل، بدليل ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رواية أبي سعيد الخدري أنه قال: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب». وما روي أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يفضي رجل إلى رجل ولا امرأة إلى امرأة،» خرج الحديثين أبو داود، فجعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم المرأة مع المرأة فيما يجوز لها أن تنظر إليه منها كحكم الرجل مع الرجل فيما يجوز له أن ينظر إليه منه.
وقد أجمع أهل العلم فيما علمت على أن النساء يغسلن المرأة الميتة كما يغسل الرجال الرجل الميت، ولم يختلفوا في ذلك كما اختلفوا في غسل النساء ذوي محارمهن من الرجال، وفى غسل الرجل ذوات محارمه من النساء، حسبما ذكرناه في رسم الجنائز والصيد والذبائح من سماع أشهب من كتاب الجنائز. وقال ابن أبي زيد في الرسالة ولا تدخل المرأة الحمام إلا من علة. وقال عبد الوهاب في شرحها: هذا لما روي أن الحمام محرم على النساء، فلم يجز لهن دخوله إلا من عذر؛ لأن المرأة ليست كالرجل؛ لأن جميع بدنها عورة، ولا يجوز لها أن تظهر لرجل ولا امرأة، والحمام يجتمع فيه النساء ولا يمكن الواحدة أن تخليه لنفسها في العادة، فكره لها ذلك إلا من عذر. هذا نص قول عبد الوهاب، وفيه نظر. أما ما ذكره من أن الحمام محرم على النساء فلا أعلمه نصا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن كان ذلك من قول أحد من العلماء فمعناه في دخولهن إياه على ما جرت به عادتهن من دخولهن إياه غير مستترات. وأما ما قاله من أن بدن المرأة عورة لا يجوز أن يراه رجل ولا امرأة فليس بصحيح، إنما هو عورة على الرجل لا على المرأة، بدليل ما ذكرناه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما روي من أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح: إنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين قبلك يدخلن الحمام مع نساء المشركين، فانه عن ذلك أشد النهي، فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن يرى عورتها غير أهل دينها، وما أجمع عليه العلماء من أن النساء يغسلن النساء كما يغسل الرجال الرجال. وإنما قال ابن أبي زيد إن المرأة لا تدخل الحمام إلا من علة لما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: «إنها ستفتح لكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات فلا يدخلها الرجال إلا بالأزر وامنعوا منها النساء إلا مريضة أو نفساء».
وإنما أمر، والله أعلم، أن تمنع النساء من دخوله إلا مريضة أو نفساء لأن إباحة ذلك لهن ذريعة إلى أن يدخلنه غير مؤتزرات لا من أجل أن عليهن حرجا وإثما في دخولهن إياه مؤتزرات فدخول النساء الحمامات مكروه لهن غير محرم عليهن. وعلى هذا يتأول ما روي في ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن عائشة، من ذلك حديث عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نهى عن دخول الحمامات، ثم رخص للرجال أن يدخلوها بميازر» فيتأول أنه إنما لم يرخص في ذلك للنساء بدليل هذا الحديث حماية للذرائع في دخولهن إياه بغير ميازر؟ ومنها ما روي «عن عائشة: أنها أتتها نساء من أهل الشام فقالت: لعلكن من الكورة التي تدخل نساؤها الحمامات؟ قال: قلن: نعم، قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيتها فقد هتكت ما بينها وبين الله، أو ستر ما بينها وبين الله؛» لأنها إنما تكون قد هتكت سترها إذا وضعت ثيابها حيث لا تأمن أن يطلع أحد من الرجال عليها مكشوفة الرأس أو الجسم إن تجردت عريانة، وإن أمنت أن يطلع عليها أحد من الرجال أو كان معها النساء في الحمام وشبهه، فقد قال بعض من تكلم على هذا الحديث من العلماء إن هذا النهي إنما كان في الوقت الذي لم يكن للنساء حمام مفرد، فأما اليوم فقد زال ذلك فيجب أن يجوز. وقد روي عن أم كلثوم قالت: أمرتني عائشة فطليتها بالنورة ثم طليتها بالحناء من رأس قرنها إلى قدميها في الحمام من حضر كان بها. قالت فقلت لها: ألم تكوني تنهين النساء عن الحمامات، قالت إني سقيمة، وأنا أنهى الآن أيضا أن لا تدخل امرأة حماما إلا من سقم، فدل ذلك من قولها وفعلها على أنها كرهت للنساء دخول الحمامات مستترات من غير تحريم، وكانت تنهى عن ذلك ولم ترخص لهن فيه إلا من مرض. ولو كان عليهن حراما لما جاز في المرض، فهو لهن مع المرض جائز ومع الصحة مكروه إذا كن مستترات متزرات؛ لأن بدن المرأة إنما هو عورة على الرجل لا على المرأة. وإنما اختلف في بدن الرجل هل هو عورة على المرأة؟ فقيل إنه لا يجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من المرأة، والصحيح أنه يجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من ذوات محارمه، بدليل «قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفاطمة بنت قيس: اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك» فلولا أنها في النظر إليه بحكم الرجل في النظر إلى ذوات محارمه لما أباح لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاعتداد عنده، وهذا بين والله أعلم، وبه التوفيق لا شريك له.